بين حين و آخر تمتلىء النفس البشرية بالهموم والأثقال ، فيشعر حينها المرء بضيق الدنيا ، و يتمنى لو يستطيع الهرب منها ناجيا بما تبقى له من إنسانية ، لأنه في ذات اللحظات يرى بصيصا من سعة الآخرة ، ويسمع همسا خافتا من أسير صدره مشعرا إياه بأنه لا يزال حيا .. ربما مثقلا .. جريحا .. ضعيفا .. لكنه لا يزال حيا .
هي تلك الملامسات التي يمر بها في تلك اللحظات ، حيث يكون العقل قد مل المراوغة ، وتكون النفس قد خرت واقعة أمام ذلك البصيص الإيماني القاصد ما تبقى من القلب ..
تلك الملامسات التي يفطن فيها لمعان لم يكن لينتبه إليها .. تلك الملامسات التي يشعر فيها أنه كان غائبا عن الوعي لفترة ليست باليسيرة ..
تلك الملامسات التي تجبر دموعه على التدفق متحررة من أقداح كادت تنسى ملمس الدمعة الصادقة ..
تلك الملامسات التي تعزله عن العالم المادي الرهيب ، وتأخذه لذلك العالم الروحي البعيد فيحاول إسقاط الهموم و الأثقال ، ثم تعيده ببعض مما فقد من إنسانيته .
(1)
حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحا ، أو أطيب منهم قلبا ، أو أرحب منهم نفسا أو أذكى منهم عقلا لا نكون قد صنعنا شيئا كبيرا … لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبيل وأقلها مؤونة !.
إن العظمة الحقيقية : أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع !.
إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقا .. إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد : هو العظمة الحقيقية !
سيد قطب .. أفراح الروح
هو وقت الاعتراف بفشل المحاولات الهشة في مجاراة الواقع الأليم ، ونشر سعادة حقيقية يرجوها الجميع ويرفضونها في ذات الوقت !
حتى عهد قريب ، كان يحسب أنه لم يبتعد كثيرا عن الطريق ، لكنه أدرك في ملامساته مدى وهمه اللانهائي ، فقد أخذته الدنيا كما أخذتهم ، وأذلته شهواته كما أذلتهم ، وراح متناسيا طريقه يبحث عن كل الطرق الأخرى التي لا تؤدي سوى للموت ، موت القلوب ، فقد مات قلبه في النهاية كما ماتت قلوبهم ، صار سواء معهم في الماّل ، لكن أقسى منهم في النكال ، فهو لم يبدأ كما بدأوا ، لم يكن هش النفس خاوي الباطن ، كان إنسانا يتشبع بفكر الحياة الهانئة في رحاب الله وشريعته ، أما الآن فليس هناك ما يقول سوى أنه فقد إنسانيته ، نعم لم يعد إنسانا كما كان !
راح ينشد العزلة فلم يجد غيرها رفيقا في لحظاته تلك، وشعر أنها ربما تكون سبيلا للخلاص وأدرك معنى من معان الغربة الحقيقية ، ولكنه حين أحسً تلك الكلمات وجد أنه ربما كان يبحث عن العظمة الحقيقية ولكن من دون منهاج قويم، كان يسعى - دون أن يشعر- بفطرته المنهكة و بفكرة مجردة وحسب .
إن الأمر في حقيقته بالغ الصعوبة ، ويتطلب الكثير والكثير من الإيمان الراسخ أولا ، ثم العلم الذي لا يتوقف ما دام القلب ينبض بالتوحيد ، ثم المجاهدة بإخلاص على طول الطريق ، وعلى قدر القبض على الجمر والمشاق تكون العظمة الحقيقية !
(2)
"الناس يمدحونك لما يظنونه فيك ، فكن أنت ذاما لنفسك لما تستيقنه منها ، فالعاقل لا يترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس"
ابن عطاء الله السكندري .. الحكم العطائية
من الأمور الشديدة الإيلام على النفس أن يخيب ظنك فيمن كنت تظن فيه الإحسان ، ولكن الأشد إيلاما على النفس أن تشعر بخيبة الظن في نفسك أنت ، ياله من شعور قاس يتسلل بين جوارحك مجهزا عليك في لحظات ثناء الناس عليك ، أو استحسانهم فعلك ، أو إيداعك ثقتهم !
لكن العزاء ربما ينطلق من أن الشعور بهذا الاستحسان وتلك الثناءات وكأنها نار مندلعة في الأعماق ، إنما يدفع إلى إصلاح الباطن والعناية به حتى يَسْلم المرءُ نفسا ، ويطيب ضميرا وعقلا .
(3)
حبيبتي ، لديَّ شيءٌ كثيرْ أقولُهُ ، لديَّ شيءٌ كثيرْ ..
من أينَ ؟ يا غاليتي أَبتدي .. و كلُّ ما فيكِ .. أميرٌ .. أميرْ
نزار قباني .. رسالة حب صغيرة
من دون ترددات .. علم السر وراء كل ما صار يشغله .. محاولاته لتهذيب روحه ونفسه .. تفكيره وحسه .. لقد هام بها أميرة فريدة في أعالي الجبال .. تحتضنهم مروج إلى مد البصر .. تكتنفهم أشعة من بريق القمر .. ينظر إليها فإذا هي نجمة تبتسم .. يعشق خجلها .. يعشق خفتها .. يعشق تميزها .. يعشق فطنتها .. ينتظر إعراضها الخاطف .. يطمئن عليها ويضطرب هو سريعا .. يسعى جاهدا للحفاظ عليها من دون مقابل .. من دون حديث تفهمه و تجيبه .. لم يشعر أنه بحاجة إلى قول تلك الأقوال التي قيلت وما تزال تقال من الجميع .. فهي تشعر به كأنها تعرفه منذ سنين .. وهو يفكر فتـُلهبُ أشواقـُه ويرديه الحنين .. ويهم أن يقول شيئا واحدا من الكثير .. فيأبى إلا أن يقول كل الكثير .. فينتظر محبورا راضيا متجها إلى أحرفه التي صارت من ورائها شرانقا من حرير ..
(4)
" إن الكلمة لتنبعث ميتة وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يؤمئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة "
سيد قطب .. في ظلال القراّن
إن المقدرة على الكتابة و تحرير الأفكار هبة ثمينة أودعها الله في طاقات بعض الناس ، في حين أنها تقف معضلة أمام الكثيرين أيضا ، لكنً مدى تأثير تلك الكلمات و جدوى تسطيرها وقولها هو مربط الفرس ، فعندما سئلت السيدة عائشة - رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : "كان خلقه القراّن" ، فلا عجب إذا من اختراق كلماته الصادقة للقلوب المؤمنة في تلك السهولة البالغة فقد كانت متجسدة في شخصه الكريم ، وصدق القائل: "إن ما أنت عليه يتكلم بكثير أكثر مما تقول" ..
ما أصدق تلك اللحظات التي تشعر فيها أنك بدأت استعادة نقاء قلبك ، ونفاذ فطرتك ، وصفاء ذهنك من الماديات ، و هدوء عقلك ، حينها فقط سوف تكون قادرا على الاستيعاب قلبا لقلب ، وحينها فقط ستشعر بالكثير والكثير من الملامسات !